فصل: تفسير الآيات رقم (92 - 96)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏92 - 96‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن ذي القرنين‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا‏}‏ أي‏:‏ ثم سلك طريقًا من مشارق الأرض‏.‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ‏}‏ وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا، ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم، عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى يقول‏:‏ يا آدم‏.‏ فيقول‏:‏ لبيك وسعديك‏.‏ فيقول‏:‏ ابعث بَعْثَ النار‏.‏ فيقول‏:‏ وما بَعْثُ النار‏؟‏ فيقول‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة‏؟‏ فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فيقال‏:‏ إن فيكم أمّتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه‏:‏ يأجوج ومأجوج‏"‏‏.‏

وقد حكى النووي ، رحمه الله، في شرح ‏"‏مسلم‏"‏ عن بعض الناس‏:‏ أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من ذلك فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم، وليسوا من حواء‏.‏ وهذا قول غريب جدًا، ‏[‏ثم‏]‏ لا دليل عليه لا من عقل ولا ‏[‏من‏]‏ نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب، لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم‏.‏

وفي مسند الإمام أحمد، عن سَمُرَة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وَلَدُ نوح ثلاثة‏:‏ سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك‏"‏ ‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، قال‏:‏ ‏[‏إنما سموا هؤلاء تركًا؛ لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة ‏.‏ وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين، وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم، ‏[‏وطولهم‏]‏ وقصر بعضهم، وآذانهم ‏.‏ وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ لاستعجام كلامهم وبعدهم

عن الناس‏.‏

‏{‏قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا‏}‏ قال ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس‏:‏ أجرًا عظيمًا، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سدًا‏.‏ فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير‏:‏ ‏{‏مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ‏}‏ أي‏:‏ إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 36‏]‏ وهكذا قال ذو القرنين‏:‏ الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ بعملكم وآلات البناء، ‏{‏أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ‏}‏ والزبر‏:‏ جمع زُبْرَة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏.‏ وهي كاللبنة ، يقال‏:‏ كل لبنة ‏[‏زنة‏]‏ قنطار بالدمشقي، أو تزيد عليه‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضًا‏.‏ واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال‏.‏ ‏{‏قَالَ انْفُخُوا‏}‏ أي‏:‏ أجج عليه النار حتى صار كله نارًا، ‏{‏قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسُّدي‏:‏ هو النحاس‏.‏ وزاد بعضهم‏:‏ المذاب‏.‏ ويستشهد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 12‏]‏ ولهذا يشبه بالبرد المحبر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال‏:‏ ‏"‏انعته لي‏"‏ قال‏:‏ كالبرد المحبر، طريقة سوداء‏.‏ وطريقة حمراء‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏قد رأيته‏"‏‏.‏ هذا حديث مرسل‏.‏

وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه، ووجه معه جيشًا سرية، لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا‏.‏ فتوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن مُلْك إلى مُلْك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك‏.‏ وأن عنده حرسًا من الملوك المتاخمة له، وأنه منيف عال، شاهق، لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال‏.‏ ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالا وعجائب‏.‏ ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97 - 99‏]‏

‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله‏.‏ ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا‏}‏ وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه، ولا على شيء منه‏.‏

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم‏:‏ ارجعوا فستحفرونه غدًا فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس ‏[‏حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس‏]‏ قال الذي عليهم‏:‏ ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله‏.‏ ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، ‏[‏فترجع وعليها هيئة الدم، فيقولون‏:‏ قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء‏]‏ ‏.‏ فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم، فيقتلهم بها‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، إن دواب الأرض لتسمن، وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم‏"‏‏.‏

ورواه أحمد أيضًا عن حسن -هو ابن موسى الأشيب- عن سفيان، عن قتادة، به ‏.‏ وكذا رواه ابن ماجه، عن أزهر بن مروان، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قال‏:‏ حدث رافع‏.‏ وأخرجه الترمذي، من حديث أبي عوانة، عن قتادة‏.‏ ثم قال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ وهذا إسناده قوي، ولكن في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه، لإحكام بنائه وصلابته وشدته‏.‏ ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار‏:‏ أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون‏:‏ غدًا نفتحه‏.‏ فيأتون من الغد وقد عاد كما كان، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون كذلك، ويصبحون وهو كما كان، فيلحسونه ويقولون‏:‏ غدًا نفتحه‏.‏ ويلهمون أن يقولوا‏:‏ ‏"‏إن شاء الله‏"‏، فيصبحون وهو كما فارقوه، فيفتحونه‏.‏ وهذا مُتَّجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب‏.‏ فإنه كثيرًا ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع، فرفعه، والله أعلم‏.‏

ويؤكد ما قلناه -من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه، ومن نكارة هذا المرفوع- قول الإمام أحمد‏:‏

حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن ‏[‏زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها أم حبيبة، عن‏]‏ زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم -قال سفيان‏:‏ أربع نسوة- قالت‏:‏ استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه‏.‏ وهو محمر وجهه، وهو يقول‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏!‏ ويل للعرب من شر قد اقترب‏!‏ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا‏"‏‏.‏ وحَلَّق‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم إذا كثر الخبث‏"‏‏.‏

هذا حديث صحيح، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، من حديث الزهري ، ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة، وأثبتها مسلم‏.‏ وفيه أشياء عزيزة نادرة قليلة الوقوع في صناعة الإسناد، منها رواية الزهري عن عروة، وهما تابعيان ومنها اجتماع أربع نسوة في سنده، كلهن يروي بعضهن عن بعض‏.‏ ثم كل منهن صحابية، ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان، رضي الله عنهن‏.‏

وقد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضًا، فقال البزار‏:‏ حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا مُؤمَّل بن إسماعيل، حدثنا وهيب ، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا‏"‏ وعقد التسعين‏.‏ وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب ، به‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ لما بناه ذو القرنين ‏{‏قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ إذا اقترب الوعد الحق ‏{‏جَعَلَهُ دَكَّاءَ‏}‏ أي‏:‏ ساواه بالأرض‏.‏ تقول العرب‏:‏ ناقة دكاء‏:‏ إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ أي‏:‏ مساويًا للأرض‏.‏

وقال عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ‏}‏ قال‏:‏ طريقًا كما كان‏.‏ ‏{‏وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا‏}‏ أي‏:‏ كائنًا لا محالة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ ‏[‏يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ الناس يومئذ أي‏:‏ يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ ذاك حين يخرجون على الناس‏.‏ وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه ‏[‏إن شاء الله تعالى‏]‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏الأنبياْ‏:‏ 96، 97‏]‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا‏}‏ قال ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ هذا أول يوم القيامة، ‏{‏وَنُفِخ فِي الصُّورِ‏}‏ على أثر ذلك ‏{‏فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا‏}‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة يختلط الإنس والجن‏.‏

وروى ابن جرير، عن محمد بن حميد، عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ إذا ماج الإنس والجن قال إبليس‏:‏ أنا أعلم لكم علم هذا الأمر‏.‏ فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول‏:‏ ‏"‏ما من محيص‏"‏‏.‏ ثم يظعن يمينًا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول‏:‏ ‏"‏ما من محيص‏"‏ فبينما هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازنًا من خزان النار، فقال‏:‏ يا إبليس، ألم تكن لك المنزلة عند ربك‏؟‏‏!‏ ألم تكن في الجنان‏؟‏‏!‏ فيقول‏:‏ ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه‏.‏ فيقول‏:‏ فإن الله قد فرض عليك فريضة‏.‏ فيقول‏:‏ ما هي‏؟‏ فيقول‏:‏ يأمرك أن تدخل النار‏.‏ فيتلكأ عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار‏.‏ فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مُرسل إلا جثا لركبتيه

وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به‏.‏ رواه من وجه آخر عن يعقوب، عن هارون عن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ الجن الإنس، يموج بعضهم في بعض‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا، وإن من ورائهم ثلاث أمم‏:‏ تاويل، وتايس ومنسك‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب بل منكر ضعيف‏.‏

وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبيه، عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعًا‏:‏ ‏"‏إن يأجوج ومأجوج لهم نساء، يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ‏}‏‏:‏ والصور كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏قرن ينفخ‏"‏ فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، كما قد تقدم في الحديث بطوله، والأحاديث فيه كثيرة‏.‏

وفي الحديث عن عطية، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا‏:‏ ‏"‏كيف أنعم، وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ كيف نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولوا‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا‏"‏

وقوله ‏{‏فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا‏}‏ أي‏:‏ أحضرنا الجميع للحساب ‏{‏قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 49، 50‏]‏، ‏{‏وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100 - 102‏]‏

‏{‏وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عما يفعله بالكفار يوم القيامة‏:‏ أنه يعرض عليهم جهنم، أي‏:‏ يبرزها لهم ويظهرها، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم‏.‏

وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زِمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك ‏[‏يجرونها‏]‏

ثم قال مخبرًا عنهم‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي‏}‏ أي‏:‏ تعاموا وتغافلوا وتصاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا‏}‏ أي‏:‏ لا يعقلون عن الله أمره ونهيه‏.‏

ثم قال ‏{‏أَفَحَسِبَ‏}‏ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ‏}‏ أي‏:‏ اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك، وينتفعون بذلك‏؟‏ ‏{‏كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 82‏]‏؛ ولهذا أخبر أنه قد أعدّ لهم جهنم يوم القيامة منزلا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103 - 106‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا‏}‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عَمْرو، عن مُصْعَب قال‏:‏ سألت أبي -يعني سعد بن أبي وقاص-‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا‏}‏ أهم الحَرُورية‏؟‏ قال‏:‏ لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى كفروا بالجنة، وقالوا‏:‏ لا طعام فيها ولا شراب‏.‏ والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏.‏ وكان سعد رضي الله عنه، يسميهم الفاسقين‏.‏

وقال علي بن أبي طالب والضحاك، وغير واحد‏:‏ هم الحرورية‏.‏

ومعنى هذا عن علي، رضي الله عنه‏:‏ أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء بل هي أعم من هذا؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2-4‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ نخبركم ‏{‏بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا‏}‏‏؟‏ ثم فسرهم فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ‏{‏وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ أي‏"‏ يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ‏}‏ أي‏:‏ جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة، ‏{‏فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا‏}‏ أي‏:‏ لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة، حدثني أبو الزَّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا‏}‏‏.‏ وعن يحيى بن بُكَيْر، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، مثله‏.‏

هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا ‏.‏ وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق، عن يحيى بن بكير، به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن صالح مولى التَّوْأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم، فيوزن بحبة فلا يزنها‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وقرأ‏:‏ ‏{‏فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا‏}‏

وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي الصلت، عن أبي الزناد، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعًا فذكره بلفظ البخاري سواء‏.‏

وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار‏:‏ حدثنا العباس بن محمد، حدثنا عون بن عُمَارة حدثنا هشام بن حسان، عن واصل، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له‏.‏ فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يا بريدة، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنًا‏"‏‏.‏

ثم قال‏:‏ تفرّد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عُمَارة وليس بالحافظ، ولم يتابع عليه‏.‏ وقد قال ابن جرير أيضًا‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن شمر عن أبي يحيى، عن كعب قال‏:‏ يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا‏:‏ ‏{‏فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ إنما جازيناهم بهذا الجزاء جهنم، بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوًا، استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107 - 108‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا‏}‏

يخبر تعالى عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوهم فيما جاؤوا به بأن لهم جنات الفردوس‏.‏

قال مجاهد‏:‏ الفردوس هو‏:‏ البستان بالرومية‏.‏

وقال كعب، والسدي، والضحاك‏:‏ هو البستان الذي فيه شجر الأعناب‏.‏

وقال أبو أمامة الفردوس‏:‏ سرة الجنة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ الفردوس‏:‏ ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها‏.‏

وقد روي هذا مرفوعًا من حديث سعيد بن بشير ، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الفردوس ربوة الجنة، أوسطها وأحسنها‏"‏ وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة مرفوعًا‏.‏ وروي عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعًا بنحوه‏.‏ وقد نقله ابن جرير، رحمه الله

وفي الصحيحين‏:‏ ‏"‏إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تُفَجَّرُ أنهار الجنة‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نزلا‏}‏ أي ضيافة، فإن النزل هو الضيافة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبدًا، ‏{‏لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا‏}‏ أي‏:‏ لا يختارون غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر

فَحَّلْت سُوَيدا القَلْب لا أنَا بَاغيًا *** سواها ولا عَنْ حُبّها أتَحوّل

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا‏}‏ تنبيه على رغبتهم فيها، وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد‏:‏ لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة عليه، ‏{‏لَنَفِدَ الْبَحْرُ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏لفرغ البحر‏]‏ قبل أن يفرغ من كتابة ذلك ‏{‏وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ بمثل البحر آخر، ثم آخر، وهلم جرا، بحور تمده ويكتب بها، لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏

قال الربيع بن أنس‏:‏ إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏}‏‏.‏

يقول‏:‏ لو كان البحر مدادا ‏[‏لكلمات الله‏]‏ ، والشجر كله أقلام ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة ، كحبة من خردل في خلال الأرض ‏[‏كلها‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏

روى الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن قيس الكوفي، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال‏:‏ هذه آخر آية أنزلت‏.‏

يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ‏}‏ فمن زعم أني كاذب، فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وأنا أخبركم ‏{‏أَنَّمَا إِلَهُكُمْ‏}‏ الذي أدعوكم إلى عبادته، ‏{‏إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ لا شريك له، ‏{‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ ثوابه وجزاءه الصالح، ‏{‏فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا‏}‏، ما كان موافقًا لشرع الله ‏{‏وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل‏.‏ لا بد أن يكون خالصًا لله، صوابُا على شريعة رسول الله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏‏.‏ وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر، عن عبد الكريم الجَزَري، عن طاوس قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله، إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني‏.‏ فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا‏.‏ حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏‏.‏

وهكذا أرسل هذا مجاهد، وغير واحد‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم، عن شَهْر بن حَوْشَب قال‏:‏ جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال‏:‏ أنبئني عما أسألك عنه‏:‏ أرأيت رجلا يصلي، يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحْمَد، ويصوم ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويحج ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، فقال عبادة‏:‏ ليس له شيء، إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه‏"‏‏.‏وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، ثنا كثير بن زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده، تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل، فيبعثنا‏.‏ فكثر المحتسبون وأهل النُّوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ما هذه النجوى‏؟‏ ‏[‏ألم أنهكم عن النجوى‏]‏ ‏.‏ قال‏:‏ فقلنا‏:‏ تبنا إلى الله، أي نبيّ الله، إنما كنا في ذكر المسيح، وفرقنا منه، فقال‏:‏ ‏"‏ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قلنا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد -يعني ابن بَهْرَام- قال‏:‏ قال شَهْر بن حَوْشَب‏:‏ قال ابن غنم‏:‏ لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء، لقينا عبادة بن الصامت، فأخذ يميني بشماله، وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت‏:‏ إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما، لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين -يعني من وسط- قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونزل عند منازله، لا يَحُورُ فيكم إلا كما يَحُور رأس الحمار الميت‏.‏ قال‏:‏ فبينما نحن كذلك، إذ طلع شداد بن أوس، رضي الله عنه، وعوف بن مالك، فجلسا إلينا، فقال شداد‏:‏ إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من الشهوة الخفية والشرك‏"‏‏.‏ فقال عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء‏:‏ اللهم غفرًا‏.‏ أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب‏.‏ وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد‏؟‏ فقال شداد‏:‏ أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل، أو يصوم لرجل، ‏[‏أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له‏]‏ أو تصدق له، لقد أشرك‏.‏ فقال شداد‏:‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏يقول‏]‏ ‏:‏ من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك‏؟‏‏"‏ فقال عوف بن مالك عند ذلك‏:‏ أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله، فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به‏؟‏ فقال شداد عن ذلك‏:‏ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الله يقول‏:‏ أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئًا فإن ‏[‏حَشْده‏]‏ عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني‏"‏‏.‏

طريق ‏[‏أخرى‏]‏ لبعضه‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني عبد الواحد بن زياد، أخبرنا عبادة بن نُسيّ، عن شداد بن أوس، رضي الله عنه، أنه بكى، فقيل له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ‏[‏فذكرته‏]‏ فأبكاني، سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏"‏أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أتشرك أمتك ‏[‏من بعدك‏؟‏‏]‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا، ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائمًا فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه‏.‏

ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذَكْوَان، عن عبادة بن نُسيّ، به‏.‏ وعبادة فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا الحسين بن عليّ بن جعفر الأحمر، حدثنا عليّ بن ثابت، حدثنا قيس بن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقول الله يوم القيامة‏:‏ أنا خير شريك، من أشرك بي أحدًا فهو له كله‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال‏:‏ ‏"‏أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك‏"‏‏.‏ تفرّد به من هذا الوجه‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد -يعني ابن الهاد- عن عمرو، عن محمود بن لبيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وما الشرك الأصغر يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم‏:‏ اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بكر أخبرنا عبد الحميد -يعني ابن جعفر- أخبرني أبي، عن زياد بن ميناء، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري -وكان من الصحابة- أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد‏:‏ من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك‏"‏‏.‏

وأخرجه الترمذي وابن ماجه، ‏[‏من حديث محمد بن‏]‏ بكر وهو البُرساني، به

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا بكار، حدثني أبي -يعني عبد العزيز بن أبي بكرة -عن أبي بكرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا معاوية، حدثنا شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد

الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني عمرو بن مرة، قال‏:‏ سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة؛ أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من سَمَّع الناس بعمله سَمَّع الله به، سامع خلقه وصغره وحقره‏"‏ ‏[‏قال‏]‏ ‏:‏ فذرفت عينا عبد الله‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي، حدثنا الحارث بن غسان، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أنس، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة في صحف مختومة، فيقول الله‏:‏ ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة‏:‏ يا رب، والله ما رأينا منه إلا خيرًا‏.‏ فيقول‏:‏ إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي‏"‏‏.‏ ثم قال الحارث بن غسان‏:‏ روى عنه جماعة وهو بصري ليس به بأس‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ حدثني يزيد بن عياض، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن قيس الخزاعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من قام رياء وسمعة، لم يزل في مقت الله حتى يجلس‏"‏‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا محمد بن دينار، عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص، عن عوف بن مالك، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه، عز وجل‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي؛ أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية ‏{‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ وقال‏:‏ إنها آخر آية نزلت من القرآن‏.‏

وهذا أثر مشكل، فإن هذه الآية ‏[‏هي‏]‏ آخر سورة الكهف‏.‏ والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما تنسخها ولا يغير حكمها بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة، فروى بالمعنى على ما فهمه، والله أعلم‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا أبو قُرَّرة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من قرأ في ليلة‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏، كان له من نور، من عدن أبين إلى ‏[‏مكة‏]‏ حشوه الملائكة غريب جدا‏.‏

آخر ‏[‏تفسير‏]‏ سورة الكهف ولله الحمد

تفسير سورة مريم ‏[‏عليها السلام‏]‏

وهي مكية‏.‏

وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة‏:‏ أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 6‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا‏}‏

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا‏.‏

وقرأ يحيى بن يعمر ‏"‏ذَكَّرَ رحمة ربك عَبْدَهُ زَكَريَّا‏"‏‏.‏

‏[‏و‏]‏ ‏{‏زَكَرِيَّا‏}‏‏:‏ يمد ويقصر قراءتان مشهورتان‏.‏ وكان نبيًّا عظيمًا من أنبياء بني إسرائيل‏.‏ وفي صحيح البخاري‏:‏ أنه كان نجارًا، أي‏:‏ كان يأكل من عمل يديه في النجارة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا‏}‏‏:‏ قال بعض المفسرين‏:‏ إنما أخفى دعاءه، لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره‏.‏ حكاه الماوردي‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله‏.‏ كما قال قتادة في هذه الآية ‏{‏إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا‏}‏‏:‏ إن الله يعلم القلب التقي، ويسمع الصوت الخفي‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ قام من الليل، عليه السلام، وقد نام أصحابه، فجعل يهتف بربه يقول خفية‏:‏ يا رب، يا رب، يا رب فقال الله‏:‏ لبيك، لبيك، لبيك‏.‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي‏}‏ أي‏:‏ ضعفت وخارت القوى، ‏{‏وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا‏}‏ أي

اضطرم المشيب في السواد، كما قال ابن دُرَيد في مقصورته‏:‏

إمَّا تَرَى رأسِي حَاكى لونُهُ *** طُرَّةَ صُْبحٍ تَحتَ أذْيَال الدُّجى

واشْتَعَل المُبْيَض في مُسْوَدّه *** مِثْلَ اشتِعَال النَّارِ في جمر الغَضَا

والمراد من هذا‏:‏ الإخبار عن الضعف والكبر، ودلائله الظاهرة والباطنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا‏}‏ أي‏:‏ ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط فيما سألتك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي‏}‏‏:‏ قرأ الأكثرون بنصب ‏"‏الياء‏"‏ من ‏{‏الْمَوَالِيَ‏}‏ على أنه مفعول، وعن الكسائي أنه سكن الياء، كما قال الشاعر‏:‏

كَأنَّ أيْديهنّ في القَاع الفَرقْ *** أيدي جَوَارٍ يَتَعَاطَينَ الوَرقْ

وقال الآخر‏:‏

فَتَى لو يُبَاري الشَّمسَ ألْقَتْ قِنَاعَها *** أو القَمَرَ السَّاري لألْقَى المقَالدَا

ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي‏:‏

تَغَاير الشَّعرُ فيه إذ سَهرت لَهُ *** حَتَّى ظَنَنْتُ قوافيه ستَقتتل

وقال مجاهد، وقتادة، والسدي‏:‏ أراد بالموالي العصبة‏.‏ وقال أبو صالح‏:‏ الكلالة‏.‏

وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه كان يقرؤها‏:‏ ‏"‏وإني خَفَّت الموالي من ورائي‏"‏ بتشديد الفاء بمعنى‏:‏ قلت عصباتي من بعدي‏.‏

وعلى القراءة الأولى، وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا ‏[‏من‏]‏ بعده في الناس تصرفًا سيئًا، فسأل الله ولدا، يكون نبيًّا من بعده، ليسوسهم بنبوته وما يوحى إليه‏.‏ فأجيب في ذلك، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرًا من أن يشفق على ماله إلي ما هذا حده أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد، فيحوز ميراثه دونه دونهم‏.‏ هذا وجه‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجارا يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالا ولا سيما الأنبياء، عليهم السلام، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا‏.‏

الثالث‏:‏ أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا نُورَث، ماتركنا فهو صدقة‏"‏ وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح‏:‏ ‏"‏نحن معشر الأنبياء لا نورث‏"‏ وعلى هذا فتعين حمل قوله‏:‏ ‏{‏فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي‏}‏ على ميراث النبوة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 16‏]‏ أي‏:‏ في النبوة؛ إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث‏:‏ ‏"‏نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة‏"‏‏.‏

قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏‏:‏ كان وراثته علمًا وكان زكريا من ذرية يعقوب‏.‏

وقال هشيم‏:‏ أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله‏:‏ ‏{‏يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ‏}‏ قال‏:‏ ‏[‏قد‏]‏ يكون نبيًّا كما كانت آباؤه أنبياء‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن‏:‏ يرث نبوته وعلمه‏.‏

وقال السُّدِّي‏:‏ يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب‏.‏

وعن مالك، عن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ‏}‏ قال‏:‏ نبوتهم‏.‏

وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله‏:‏ ‏{‏يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ‏}‏ قال‏:‏ يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة‏.‏

وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر، عن قتادة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يرحم الله زكريا، وما كان عليه من ورثة، ويرحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد‏"‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جابر بن نوح، عن مبارك -هو ابن فضالة -عن الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رحم الله أخي زكريا، ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول‏:‏ ‏{‏فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ‏}‏

وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا‏}‏ أي مرضيا عندك وعند خلقك، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا‏}‏

هذا الكلام يتضمن محذوفًا، وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل ‏[‏له‏]‏‏:‏ ‏{‏يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 38، 39‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا‏}‏ قال قتادة، وابن جريج، وابن زيد‏:‏ أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم، واختاره ابن جرير، رحمه الله‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا‏}‏ أي‏:‏ شبيهًا‏.‏

أخذه من معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ أي‏:‏ شبيهًا‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ أي لم تلد العواقر قبله مثله‏.‏

وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام، كان لا يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها، بخلاف إبراهيم وسارة، عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق على كبرهما لا لعقرهما ؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 54‏]‏ مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة‏.‏ وقالت امرأته‏:‏ ‏{‏يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72، 73‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 – 9‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏}‏

هذا تعجب من زكريا، عليه السلام، حين أجيب إلى ما سأل، وبُشِّر بالولد، ففرح فرحًا شديدًا، وسأل عن كيفية ما يولد له، والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته ‏[‏كانت‏]‏ عاقرًا لم تلد من أول عمرها مع كبرها، ومع أنه قد كبر وعتا، أي عسا عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع‏.‏

تقول العرب للعود إذا يبس‏:‏ ‏"‏عَتا يَعْتو عِتيا وعُتُوا، وعَسا يَعْسو عُسوا وعِسيا‏"‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏عِتِيًّا‏}‏ بمعنى‏:‏ نحول العظم‏.‏

وقال ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏عِتِيًّا‏}‏ يعني‏:‏ الكبر‏.‏

والظاهر أنه أخص من الكبر‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حُصَيْن، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لقد علمت السنة كلها، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا‏؟‏ ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف‏:‏ ‏{‏وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا‏}‏ أو ‏"‏عسيا‏"‏‏.‏

ورواه الإمام أحمد عن سُرَيْج بن النعمان، وأبو داود، عن زياد بن أيوب، كلاهما عن هشيم، به‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي الملك مجيبًا لزكريا عما استعجب منه‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ‏}‏ أي‏:‏ إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها ‏{‏هَيِّنٌ‏}‏ أي‏:‏ يسير سهل على الله‏.‏

ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه، فقال‏:‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 11‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن زكريا، عليه السلام، أنه ‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً‏}‏ أي‏:‏ علامة ودليلا على وجود ما وعدتني، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني كما قال إبراهيم، عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏ ‏{‏قَالَ آيَتُكَ‏}‏ أي‏:‏ علامتك ‏{‏أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا‏}‏ أي‏:‏ أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة‏.‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، ووهب ‏[‏بن منبه‏]‏، والسدي وقتادة وغير واحد‏:‏ اعتقل لسانه من غير مرض‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا‏}‏ أي‏:‏ متتابعات‏.‏

والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح كما قال تعالى في ‏[‏أول‏]‏ آل عمران‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 41‏]‏

وقال مالك، عن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا‏}‏ من غير خرس‏.‏

وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها ‏{‏إِلا رَمْزًا‏}‏ أي‏:‏ إشارة؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ‏}‏ أي‏:‏ الذي بشر فيه بالولد، ‏{‏فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أشار إشارة خفية سريعة‏:‏ ‏{‏أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا‏}‏ أي‏:‏ موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، وشكرًا لله على ما أولاه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أشار‏.‏ وبه قال وهب، وقتادة‏.‏

وقال مجاهد في رواية عنه‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كتب لهم في الأرض، كذا قال السدي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 15‏]‏

‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا‏}‏

وهذا أيضا تضمن محذوفًا، تقديره‏:‏ أنه وجد هذا الغلام المبشر به، وهو يحيى، عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار‏.‏ وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا، فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه، فقال‏:‏ ‏{‏يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ تعلم الكتاب ‏{‏بِقُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ بجد وحرص واجتهاد ‏{‏وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا‏}‏ أي‏:‏ الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث ‏[‏السن‏]‏‏.‏

قال عبد الله بن المبارك‏:‏ قال معمر‏:‏ قال الصبيان ليحيى بن زكريا‏:‏ اذهب بنا نلعب‏.‏ قال‏:‏ ما للعب خلقت، قال‏:‏ فلهذا أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا‏}‏ يقول‏:‏ ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك وزاد‏:‏ لا يقدر عليها غيرنا‏.‏ وزاد قتادة‏:‏ رُحِم بها زكريا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا‏}‏ وتعطفًا من ربه عليه‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا‏}‏ ‏[‏قال‏:‏ محبة عليه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أما الحنان فالمحبة‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ ‏{‏وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا‏}‏‏]‏ ، قال‏:‏ تعظيمًا من لدنا‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ لا والله ما أدري ما حنانًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور‏:‏ سألت سعيد بن جبير عن قوله‏:‏ ‏{‏وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا‏}‏، فقال‏:‏ سألت عنها عباس، فلم يحر فيها شيئًا‏.‏

والظاهر من هذا السياق أن‏:‏ ‏{‏وَحَنَانًا ‏[‏مِنْ لَدُنَّا‏]‏‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا‏}‏ أي‏:‏ وآتيناه الحكم وحنانا، ‏{‏وَزَكَاةً‏}‏ أي‏:‏ وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب‏:‏ حنّت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها‏.‏ ومنه سميت المرأة ‏"‏حَنَّة‏"‏ من الحَنَّة، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر‏:‏

تَحنَّنْ عَلَي هَدَاكَ المليكُ *** فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا

وفي المسند للإمام أحمد، عن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه قال‏:‏ ‏"‏يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة‏:‏ يا حنان يا منان‏"‏

وقد يُثنَّي ومنهم من يجعل ما ورد من ذلك لغة بذاتها، كما قال طرفة‏:‏

أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا *** حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض

وقوله‏:‏ ‏{‏وَزَكَاةً‏}‏ معطوف على ‏{‏وَحَنَانًا‏}‏ فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب‏.‏

وقال قتادة‏:‏ الزكاة العمل الصالح‏.‏

وقال الضحاك وابن جريج‏:‏ العمل الصالح الزكي‏.‏

وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَزَكَاةً‏}‏ ‏[‏قال‏:‏ بركة‏]‏ ‏{‏وَكَانَ تَقِيًّا‏}‏ طهر، فلم يعمل بذنب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا‏}‏ لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما، ومجانبته عقوقهما، قولا وفعلا ‏[‏وأمرًا‏]‏ ونهيًا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا‏}‏ ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك‏:‏ ‏{‏وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا‏}‏ أي‏:‏ له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن‏:‏ يوم يولد، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم‏.‏ قال‏:‏ فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه، ‏{‏وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا‏}‏ رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله‏:‏ ‏{‏جَبَّارًا عَصِيًّا‏}‏، قال‏:‏ كان ابن المسيب يذكر قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب، إلا يحيى بن زكريا‏"‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ ما أذنب ولا همّ بامرأة، مرسل

وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ‏"‏كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا‏"‏ ابن إسحاق هذا مدلس، وقد عنعن هذا الحديث، فالله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ، أو همَّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول‏:‏ أنا خير من يونس بن متى‏"‏

وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة، والله أعلم‏.‏

وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة‏:‏ أن حسن قال‏:‏ إن يحيى وعيسى، عليهما السلام، التقيا، فقال له عيسى‏:‏ استغفر لي، أنت خير مني، فقال له الآخر‏:‏ استغفر لي فأنت خير مني‏.‏ فقال له عيسى‏:‏ أنت خير مني، سَلَّمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فَعرُف والله فضلهما‏.‏